لاشك أنه ما من أحد أو شيء من خلق الله إلا وهو ميت لا محالة .. { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }الأنبياء35، { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }العنكبوت57 ، ولا تستثني هذه القاعدة أحب خلق الله على الله من الأنبياء والرسل ، وهكذا يخاطب المولى عز وجل نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }الزمر30..
فإذا كان الموت هو نهاية كل حي ، فلاشك أن موت أصحاب الرسالات والدعوات ، يختلف كل الاختلاف عن موت آحاد الناس ، لما فيه موت صاحب الرسالة من الدروس والعبر التي تتناسب مع ما قدموه من عمل ودعوة وجهاد وتضحية على مدار حياتهم كلها .. لتكون الحياة والممات كلاهما في سبيل الله .. مصداقا لقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الأنعام162
أو كما قال الشاعر :
نحن الدعاة لا نهاب الموت والحياة
كلاهما سواء
نأبى حياة الذل والهوان والإرهاب
حياتنا إباء
لنصرة الشريعة الغراء من السماء
حياتنا فداء
لدعوة الإسلام لنصرة الإسلام لدولة الإسلام
لقد كانت وفاة الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه مليئة بالدروس والعظات التي يستفيد منها الدارس ، ونحن إذ نتوقف مع بعض هذه الدروس ، ندرك أننا لن نلم بها كلها في سطور ، لإدراكنا أن سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ثابتة الوقائع والأحداث متجددة المعاني والدروس ، ينهل منها كل دارس بقدر ما يفتح الله عليه من تفقه وفهم ، فهي مصدر إلهام كامل تتجدد مع الحياة ، لتجدد حياة السالكين سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والحاذين حذوه ، والمقتفين سيرته العطرة ..
فإذا توقفنا مع بعض الدروس من وفاته صلى الله عليه وسلم ، وهو صاحب الرسالة الخاتمة الخالدة ، أخذنا منها :
1 – مصيبة الموت
فالموت مصيبة حيث يصفها بذلك المولى عز وجل { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ }المائدة106 .. غير أن هذه المصيبة واقعة بكل مخلوق لا محالة ، فهي لا تستثني أحدا ، فلا يستدل بها على حب أو بغض ، أو قرب أو بعد ، ولو استثنى مخلوق من مصيبة الموت لقربه إلى الله عز وجل ، ولحبه لمولاه ، أو حب مولاه له ، لكان محمدا صلى الله عليه وسلم أولى الخلق بذلك ، لكن الله تعالى قضى عليه مصيبة الموت ، كما قضاها على كل خلقه فقال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }الزمر30..
فلا يصح أن يجزع الإنسان حين تحضره مصيبة الموت ، أو أن يحزن حزنا شديدا مخرجا من الإيمان أو العقل ، إذا نزلت تلك المصيبة بأحد أحبابه أو ذويه ، فهي في النهاية مصيبة حتمية ، ونهاية حتمية متوقعة ، وما عليه إذ ذاك إلا أن يعمل بتوجيه القرآن الكريم : { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }البقرة156
ووصية النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لله وإنا إليه راجعون .. اللهم آجرني في مصيبتي واخلف علي بخير منها .. وليعلم المؤمن أنه بين ثلاثة مواقع لا رابع لها ، فإنه إما مودِع (فاعل بكسر حرف الدال ) ، أو مودَع ( مفعول به بفتح حرف الدال ) ، أو منتظر ..
وعلى المؤمن كذلك ألا يستخفه طول الأمل ، فيظن أنه مخلد في الأرض ، فإنما هي أنفاس يحصيها عليه ربه ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } لقمان34 ، والمتتبع لقصص الموت القريبة منه والبعيدة ، يدرك هذه الحقيقة القرآنية الخالدة التي هي في الوقت ذاته حقيقة كونية ثابتة ، فكم من أنفس حركت من أماكن معيشتها ومقامها ، إلى أرض كتب الله عليهم الموت فيها ، وما ظنوا في حياتهم الطويلة السابقة أن يذهبوا إليها يوما ، فإذا بهم يبرزون إلى مضاجعهم لا يتخلفون عنها قيد أنملة .. فمن ذا الذي يتخلف عن أمر الله تعالى وقضائه ؟!
2– المرأة ( الزوجة والابنة ) في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولحظات وفاته ..
لست من الذين يتشنجون لإثبات قضية من القضايا أو يندفعون خلف شعارات ومصطلحات قديمة مستحدثة ، فلست من الذين يندفعون خلف شعارات تحرير المرأة أو مكانتها في الإسلام ، لا لشيء إلا لأن هذه قضية من البداهة والبساطة بحيث لا تخطئها عين ، ولا يتخطاها عقل ..
فالذين ينظرون إلى تشريعات الإسلام وأحكامه على أنها تشريعات رجولية جاءت لإنصاف الرجل أو على الأقل صيغت من وجهة نظره واهمون أو مفترون .. فليس الإسلام رجولي أو نسائي ، وإنما نزله خالق البشر سبحانه ، فالمجتمع الإسلامي الرجل والمرأة فيه سواء ، كل منهما ينتظر التشريع من لدن حكيم خبير ، لا مجال فيه أن يشرع الرجل ، ولا أن يحكم الرجل بغير ما أنزل الله تعالى ، ولا مجال فيه لأن يعطي الرجل لنفسه نوعا من الامتيازات أو الحقوق ، لأن الرجل لا يملك لنفسه شيئا غير الإتباع ، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النبي المرسل يخاطبه الله تعالى فيقول : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) الجاثية 18 ، ويقول تعالى : ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) الأعراف 188 ، فجعل الله سبحانه نبيه مبلغا ومتبعا لمنهج الله وهو لا ينطق عن الهوى ( وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ) النجم 3-4 ، فلا مجال في تشريع الإسلام لوصاية الرجل لكن التشريع كله لله وحده ..
ولأن الإسلام عني بالتطبيق العملي عناية المتأخرين بالمؤتمرات والشعارات الرنانة الجوفاء ، فإن دينا يوصي الابن بأمه ، وحسن صحبتها ورعايتها ، ثلاثة أضعاف ما يوصيه بأبيه ( قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبيك .. كما في الحديث ، ثم يوصي بالمرأة زوجة وأختا ، وابنة ، ويجزل الثواب على حسن معاملتها ومعاشرتها بالمعروف ، هو دين لا يعرف التمييز بين ذكر وأنثى ، فلا تمييز بينهما في الخلق : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات 13 ، ولا تمييز بينهم في الأجر والجزاء { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ }آل عمران195 ، والمساواة في المولاة والإجارة ، ففي الولاء العام قال تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) التوبة 71 ، وفي الإجارة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ [1] ، وكانت قد أجارت رجل من المشركين هو بن هبيرة[2] .. والمساواة بعد ذلك في كافة التكاليف والواجبات ، ما لم يأتِ بشأنه تخصيص تفرضه الطبيعة الفسيولوجية لكل من الجنسين ..
دين الإسلام الذي أول من آمن بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من بني البشر امرأة هي السيدة ( خديجة بنت خويلد ) زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأول من استشهد في سبيله امرأة هي السيدة سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم ، هو دين لا يشعرني بالقلق حين يثرثر المثرثرون حول حقوق المرأة ..
لذا تجدني وأنا أعرض للمحة الأخيرة من حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي كانت لمحة طبيعية في رحاب الأسرة المنزلية .. بل لمحة عاطفية رقيقة أعمق ما تكون العاطفة ، وأعظم ما تكون الرقة .. فإنني لا أركز على مكانة المرأة التي عرفنا بداهة أنها في الإسلام شقيقة الرجل وأنها بعض من بعض ، ونفس من نفس { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11 .. بل أتجاوز ذلك مباشرة إلى مشهد الأسرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .. إلى هذا الحب العظيم الذي يربطه بزوجته عائشة ، وابنته فاطمة ، وهي الابنة الوحيدة التي تبقت على قيد الحياة حين حضر النبي صلى الله عليه وسلم الموت ..
" ولما ارتفع الضحى ، دعا صلى الله عليه وسلم فاطمة ، فسّارها بشيء فبكت ، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت ، قالت عائشة ، فسألنا عن ذلك – أي فيما بعد – فقالت سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه ، فبكيت ، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت [3] ، وبشر النبي فاطمة أنها سيدة نساء العالمين[4]
وفي رواية السيدة عائشة رضي الله عنها عن اللحظات الأخيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم : رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد ، فاضطجع في حجري ، فدخل علي رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر ، فنظر رسول الله إليه في يده نظرا عرفت أنه يريده ، فقلت يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك ؟
قال نعم . فأخذته فمضغته حتى لينته ثم أعطيته إياه .. فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ثم وضعه .
ووجدت رسول الله يثقل في حجري ، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول : ( بل الرفيق الأعلى من الجنة ) ،
فقلت خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق ! وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم [5]
وكانت السيدة عائشة تقول : إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي ، وفي يومي ، وبين سحري ونحري ، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته[6]
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله ، فهو القائل : خيركم ، خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ..
لقد كان حبه لأهله عظيما ، فها هو يهدهد ابنته فاطمة قبل موته ، ثم يموت في حجر عائشة رضي الله عنها ، لم يمت نبي الأمة في محراب الصلاة ، ولا في المسجد ، وإنما على حجر زوجته ..
وها هي زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأم المؤمنين عائشة ، تقدر العاطفة والحب أعظم ما يكون التقدير ، فتعبر عن سعادتها البالغة ، بأن ريقها قد خالط ريق النبي صلى الله عليه وسلم قبيل الوفاة ..
ما أروع تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوج وزوجه ، حتى تكون الخاتمة ، وأحدهما يلمس صاحبه .. ليكون آخر عهد الراحل منهما عن الحياة الدنيا ، لمسة عهد ووفاء من صاحبه أنه لن ينسى ما كان بينهما من حب وعاطفة وميثاق غليظ ، ما شاء الله له أن يبقى بعده في هذه الحياة ، ثم هو عهد على اللقاء في اليوم الآخر ، فعلاقة الزواج في الإسلام حين يكون كلاهما صالحا ، علاقة أبدية تتجاوز الحياة الدنيا إلى الخلود الدائم في الآخرة
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }الطور21
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ }الرعد23
مع تحياتى عماد
[1] - متفق عليه
[2] - فقه السيرة للبوطي ص 281
[3] - صحيح البخاري 2/638
[4] - الرحيق المختوم للمباركفوري 468
[5] - ابن هشام 391-392 – الطبري 3/199 – ابن سعد 2/2/27-28 – دراسة في السيرة 395
[6] - الرحيق المختوم 469
فإذا كان الموت هو نهاية كل حي ، فلاشك أن موت أصحاب الرسالات والدعوات ، يختلف كل الاختلاف عن موت آحاد الناس ، لما فيه موت صاحب الرسالة من الدروس والعبر التي تتناسب مع ما قدموه من عمل ودعوة وجهاد وتضحية على مدار حياتهم كلها .. لتكون الحياة والممات كلاهما في سبيل الله .. مصداقا لقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الأنعام162
أو كما قال الشاعر :
نحن الدعاة لا نهاب الموت والحياة
كلاهما سواء
نأبى حياة الذل والهوان والإرهاب
حياتنا إباء
لنصرة الشريعة الغراء من السماء
حياتنا فداء
لدعوة الإسلام لنصرة الإسلام لدولة الإسلام
لقد كانت وفاة الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه مليئة بالدروس والعظات التي يستفيد منها الدارس ، ونحن إذ نتوقف مع بعض هذه الدروس ، ندرك أننا لن نلم بها كلها في سطور ، لإدراكنا أن سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ثابتة الوقائع والأحداث متجددة المعاني والدروس ، ينهل منها كل دارس بقدر ما يفتح الله عليه من تفقه وفهم ، فهي مصدر إلهام كامل تتجدد مع الحياة ، لتجدد حياة السالكين سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والحاذين حذوه ، والمقتفين سيرته العطرة ..
فإذا توقفنا مع بعض الدروس من وفاته صلى الله عليه وسلم ، وهو صاحب الرسالة الخاتمة الخالدة ، أخذنا منها :
1 – مصيبة الموت
فالموت مصيبة حيث يصفها بذلك المولى عز وجل { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ }المائدة106 .. غير أن هذه المصيبة واقعة بكل مخلوق لا محالة ، فهي لا تستثني أحدا ، فلا يستدل بها على حب أو بغض ، أو قرب أو بعد ، ولو استثنى مخلوق من مصيبة الموت لقربه إلى الله عز وجل ، ولحبه لمولاه ، أو حب مولاه له ، لكان محمدا صلى الله عليه وسلم أولى الخلق بذلك ، لكن الله تعالى قضى عليه مصيبة الموت ، كما قضاها على كل خلقه فقال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }الزمر30..
فلا يصح أن يجزع الإنسان حين تحضره مصيبة الموت ، أو أن يحزن حزنا شديدا مخرجا من الإيمان أو العقل ، إذا نزلت تلك المصيبة بأحد أحبابه أو ذويه ، فهي في النهاية مصيبة حتمية ، ونهاية حتمية متوقعة ، وما عليه إذ ذاك إلا أن يعمل بتوجيه القرآن الكريم : { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }البقرة156
ووصية النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لله وإنا إليه راجعون .. اللهم آجرني في مصيبتي واخلف علي بخير منها .. وليعلم المؤمن أنه بين ثلاثة مواقع لا رابع لها ، فإنه إما مودِع (فاعل بكسر حرف الدال ) ، أو مودَع ( مفعول به بفتح حرف الدال ) ، أو منتظر ..
وعلى المؤمن كذلك ألا يستخفه طول الأمل ، فيظن أنه مخلد في الأرض ، فإنما هي أنفاس يحصيها عليه ربه ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } لقمان34 ، والمتتبع لقصص الموت القريبة منه والبعيدة ، يدرك هذه الحقيقة القرآنية الخالدة التي هي في الوقت ذاته حقيقة كونية ثابتة ، فكم من أنفس حركت من أماكن معيشتها ومقامها ، إلى أرض كتب الله عليهم الموت فيها ، وما ظنوا في حياتهم الطويلة السابقة أن يذهبوا إليها يوما ، فإذا بهم يبرزون إلى مضاجعهم لا يتخلفون عنها قيد أنملة .. فمن ذا الذي يتخلف عن أمر الله تعالى وقضائه ؟!
2– المرأة ( الزوجة والابنة ) في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولحظات وفاته ..
لست من الذين يتشنجون لإثبات قضية من القضايا أو يندفعون خلف شعارات ومصطلحات قديمة مستحدثة ، فلست من الذين يندفعون خلف شعارات تحرير المرأة أو مكانتها في الإسلام ، لا لشيء إلا لأن هذه قضية من البداهة والبساطة بحيث لا تخطئها عين ، ولا يتخطاها عقل ..
فالذين ينظرون إلى تشريعات الإسلام وأحكامه على أنها تشريعات رجولية جاءت لإنصاف الرجل أو على الأقل صيغت من وجهة نظره واهمون أو مفترون .. فليس الإسلام رجولي أو نسائي ، وإنما نزله خالق البشر سبحانه ، فالمجتمع الإسلامي الرجل والمرأة فيه سواء ، كل منهما ينتظر التشريع من لدن حكيم خبير ، لا مجال فيه أن يشرع الرجل ، ولا أن يحكم الرجل بغير ما أنزل الله تعالى ، ولا مجال فيه لأن يعطي الرجل لنفسه نوعا من الامتيازات أو الحقوق ، لأن الرجل لا يملك لنفسه شيئا غير الإتباع ، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النبي المرسل يخاطبه الله تعالى فيقول : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) الجاثية 18 ، ويقول تعالى : ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) الأعراف 188 ، فجعل الله سبحانه نبيه مبلغا ومتبعا لمنهج الله وهو لا ينطق عن الهوى ( وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ) النجم 3-4 ، فلا مجال في تشريع الإسلام لوصاية الرجل لكن التشريع كله لله وحده ..
ولأن الإسلام عني بالتطبيق العملي عناية المتأخرين بالمؤتمرات والشعارات الرنانة الجوفاء ، فإن دينا يوصي الابن بأمه ، وحسن صحبتها ورعايتها ، ثلاثة أضعاف ما يوصيه بأبيه ( قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبيك .. كما في الحديث ، ثم يوصي بالمرأة زوجة وأختا ، وابنة ، ويجزل الثواب على حسن معاملتها ومعاشرتها بالمعروف ، هو دين لا يعرف التمييز بين ذكر وأنثى ، فلا تمييز بينهما في الخلق : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات 13 ، ولا تمييز بينهم في الأجر والجزاء { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ }آل عمران195 ، والمساواة في المولاة والإجارة ، ففي الولاء العام قال تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) التوبة 71 ، وفي الإجارة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ [1] ، وكانت قد أجارت رجل من المشركين هو بن هبيرة[2] .. والمساواة بعد ذلك في كافة التكاليف والواجبات ، ما لم يأتِ بشأنه تخصيص تفرضه الطبيعة الفسيولوجية لكل من الجنسين ..
دين الإسلام الذي أول من آمن بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من بني البشر امرأة هي السيدة ( خديجة بنت خويلد ) زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأول من استشهد في سبيله امرأة هي السيدة سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم ، هو دين لا يشعرني بالقلق حين يثرثر المثرثرون حول حقوق المرأة ..
لذا تجدني وأنا أعرض للمحة الأخيرة من حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي كانت لمحة طبيعية في رحاب الأسرة المنزلية .. بل لمحة عاطفية رقيقة أعمق ما تكون العاطفة ، وأعظم ما تكون الرقة .. فإنني لا أركز على مكانة المرأة التي عرفنا بداهة أنها في الإسلام شقيقة الرجل وأنها بعض من بعض ، ونفس من نفس { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11 .. بل أتجاوز ذلك مباشرة إلى مشهد الأسرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .. إلى هذا الحب العظيم الذي يربطه بزوجته عائشة ، وابنته فاطمة ، وهي الابنة الوحيدة التي تبقت على قيد الحياة حين حضر النبي صلى الله عليه وسلم الموت ..
" ولما ارتفع الضحى ، دعا صلى الله عليه وسلم فاطمة ، فسّارها بشيء فبكت ، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت ، قالت عائشة ، فسألنا عن ذلك – أي فيما بعد – فقالت سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه ، فبكيت ، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت [3] ، وبشر النبي فاطمة أنها سيدة نساء العالمين[4]
وفي رواية السيدة عائشة رضي الله عنها عن اللحظات الأخيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم : رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد ، فاضطجع في حجري ، فدخل علي رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر ، فنظر رسول الله إليه في يده نظرا عرفت أنه يريده ، فقلت يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك ؟
قال نعم . فأخذته فمضغته حتى لينته ثم أعطيته إياه .. فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ثم وضعه .
ووجدت رسول الله يثقل في حجري ، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول : ( بل الرفيق الأعلى من الجنة ) ،
فقلت خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق ! وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم [5]
وكانت السيدة عائشة تقول : إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي ، وفي يومي ، وبين سحري ونحري ، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته[6]
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله ، فهو القائل : خيركم ، خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ..
لقد كان حبه لأهله عظيما ، فها هو يهدهد ابنته فاطمة قبل موته ، ثم يموت في حجر عائشة رضي الله عنها ، لم يمت نبي الأمة في محراب الصلاة ، ولا في المسجد ، وإنما على حجر زوجته ..
وها هي زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأم المؤمنين عائشة ، تقدر العاطفة والحب أعظم ما يكون التقدير ، فتعبر عن سعادتها البالغة ، بأن ريقها قد خالط ريق النبي صلى الله عليه وسلم قبيل الوفاة ..
ما أروع تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوج وزوجه ، حتى تكون الخاتمة ، وأحدهما يلمس صاحبه .. ليكون آخر عهد الراحل منهما عن الحياة الدنيا ، لمسة عهد ووفاء من صاحبه أنه لن ينسى ما كان بينهما من حب وعاطفة وميثاق غليظ ، ما شاء الله له أن يبقى بعده في هذه الحياة ، ثم هو عهد على اللقاء في اليوم الآخر ، فعلاقة الزواج في الإسلام حين يكون كلاهما صالحا ، علاقة أبدية تتجاوز الحياة الدنيا إلى الخلود الدائم في الآخرة
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }الطور21
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ }الرعد23
مع تحياتى عماد
[1] - متفق عليه
[2] - فقه السيرة للبوطي ص 281
[3] - صحيح البخاري 2/638
[4] - الرحيق المختوم للمباركفوري 468
[5] - ابن هشام 391-392 – الطبري 3/199 – ابن سعد 2/2/27-28 – دراسة في السيرة 395
[6] - الرحيق المختوم 469