[quote=ثريول;2776798]
وما التأنيث لاسم الشمسِ عيبٌ **** وما التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
****
الـشمس هناك عند أقـصى الأفُـق , حمـراء ذابلـة تودع الصحـراء القاحلـة لأجلٍ قريب , فالموعد الصبح , أليس الصبح بِقريب ؟ .
ناقـةٌ عُمانيـةٌ سـوداء رابضـةٌ فوق كثيبٍ رملي , بالقرب منها بدوي نزل منها ليتوضأ للصلاة .. أخرج القربـة وشرب منها قليلاً وتوضأ واتجه نحـو الغرب .
صلى وانتهى من صلاته وسبّح ودعا وحمد وشكر .. ثم ركب ناقته وسار متوكلاً على الله نحو مضارب جماعته .
اختفت الشمس وطل القمر , طل طلته البهية فأنار بعضاً من الظلام , وألهم شاعراً –هناك في حَلَب- مشاعراً تعينه في شعره فاسترسل شعراً كما يسترسل طالبٌ يقرأ كلمة طابور الصباح .. هذا البهاء القمري جعله معبوداً عند بعض قبائل اليمن قبل ميلاد عيسى عليه السلام , حين ينير لهم طرقات إبلهم أثناء سير قوافلهم مروراً بجبال تعز ووديانها .
كان حينها هلالٌ لم يكتمل عمره , ولم ينضج نور وجهه .. فأعان رغم ذلك راهباً بوذياً كبيراً في السن يخطو خطواته "البطيئة" على الدرج نحو معبده في إحدى جبال التبت أو ما يعرف عند سكانه بــ (سقف العالم) ... وفي نفس العالم , وبعد ساعات طوال , وبالتحديد في ولاية (تكساس) الأمريكية حالياً و(العالم الجديد) حينها , قام رجل من الهنود الحمر بإشعال نارٍ بعد جهد جهيد , فتجمع القوم حولها وقام أحدهم يشدو بالغناء على الرغم من بشاعة صوته .
بعد ذلك بساعات كذلك , في سيبيريا أو ما يعرف عند الروس بـ (ثلاجة العالم) , سياسي روسي معارض مرمي في كوخ صغير تحت الإقامة الجبرية , ينتفض من البرد كما ينتفض الممسوس من الجن ! , أمامه مجموعة أوراق يكتب فيها عن مذكرات حياته , حياته التي دمرها (قيصر موسكو) !.
بين الشمال والجنوب , والحر والبرد , والعز والذل , والمشاعر المتضادة .. وقف هذا الهلال من الأعلى يراقب كعادته منذ خُلِق , يتحسس الأفئدة ويداويها ويرى مالايراه بني البشر .. فقد أصبح حكيماً وخبيراً بنا بني البشر أكثر منا .
بعيداً كل البعد عن الحقائق وعلوم الفلك والفضاء , وبمنأى عن وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا " والدكتور "صالح العجيري" ... أكتب ما دار ساعتها بين القمر وبناته النجوم , حين حدثهم بما كان يكتنـزه في لبّه من حكمة بالغة ورأي سديد , هذا الرأي الذي طال صمته عنه ولم يقله فقامت عليه أطنان من بيوت العنكبوت , ولكن, قد حان وقت الحديث :
سكت القمر وهو ينظر بدون اهتمامٍ إلى الأرض , ثم تنهد ونادى بنتين من بناته الغير معدودات . فاقتربتا منه بكل حياء وقالوا : نعم أبتاه .
قال لهم القمر , وقد خط العمر على وجنتيه بل عليه وعلى ما فيه : خذاها مني يا حبيباتي , فوق كل ذي علمٍ عليم , وأنا هاهنا في أعلى السماء فوق كل هؤلاء , هؤلاء الذين قضيت أيامي أراقبهم وهم يراقبوني , ألاحظهم وهم كذلك يلاحظوني , لكن , رغم ذلك , هم يفنون وتطويهم صفحات من التراب , وينقضي عمرهم الافتراضي عند خط نهاية , أما أنا فهاهنا جالس مذ خلق الإنسان , وهذا إن دل فإنه يدل على علمي أنا بأهل الأرض أكثر من علمهم بي , بل حتى أكثر من علمهم بأنفسهم ! .
رحل ببصره نحو الأرض , هو وبنتيه .. فهبط البصر على هاتيك المشاهد التي نقلتها في الأعلى , فقال بنبرة ملؤها الحكمة والحنكة : أنا إذا ما الليل عسعس , والظلام لكل نورٍ طمس , سبحت فوق سماء المعسعسين والساهرين , فكنت نعم الصاحب ونعم الرفيق المسلي , اُخرج اليأس من قلب راعيٍ بنغالي , وأدخل الحس الجمالي على لوحة الموناليزا ؛ فكلهم يضعونني رمزاً للجمال وتاجاً له, ووجه الكمال والكمال لخالقي وخالقهم .. لكنهم جميعاً لم يروا ما ترونه الآن يابنتيّ .. لم يروني كدميم الوجه قبيح الشكل مخطط الخد عظيم الأنف , بل كنت عبلة عنتر وجولييت روميو .
بين روميو وعنتر وصراعهما الأبدي , وبين الحضارات واللغات , أطير محلقاً فوق كل هذه المجتمعات , فلا أملك وطناً بل الأوطان –كل الأوطان- تمتلكني , وتنتشي من بين ثنايا ضوئي المشاعر حين تجف تلك المشاعر من بطينيهم وأذينيهم بل وحتى من أدبياتهم وثقافتهم .
أنا مملكة القلوب , والجسر الواصل بين الشرق والغرب , وبين البطين المرء و أذينه , والحبل الرابط بين قلوب ذوي القلوب . وفي نفس الوقت , أنا مملكة العقل والمنطق .. فها أنا ذا هنا في ليلة جديدة سبقتها ليالي لا تُعد , بين نائحة وعروس ,, ومن عاشق إلى غارق في لجج الضيق انظر وأتفكر .. فما لي لا ازعم لنفسي العلم والمعرفة بهم , وبميولهم .. و.. غبائهم ! .
نعم غبائهم , غبائهم لأنهم لم يعتبروا التاريخ مدرسة , مدرسة كبيرة بها من المعلومات ما لايوجد في غيرها .. والحياة صفحات متشابهة تتجدد في كل زمان , والتاريخ اسطوانة تعاد كل فترة , وفيه قامت أخطاء وحصلت نجاحات ,, والغريب أن الغالب من الأفراد والأمم لا يلفتوا لهذا أو ذاك :
أيـــن الملوك ذوو التيجان من يمـنٍ **** وأيـــــن مــنهم أكالـيـلٌ وتيـــجـانُ ؟!
وأيـــــن ما شاده شــــدَّادُ فــــي إرمٍ **** وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ ؟!
وأين ما حـــازه قـارون من ذهــــب **** وأين عـــــادٌ وشـــــدادٌ وقحــــطانُ ؟!
أتــى علــى الــكل أمـرٌ لا مرد لـــــه **** حتــى قــضوا فكأن القـوم ما كانوا !!
وصـــار ما كان مـن مُلكٍ ومن مَلـِكٍ **** كما حكى عن خيال الطيفِ وسنانُ !!
دار الـــــزمـــان علــى دارا وقاتلــه **** وأمَّ كســــرى فمــــا آواه إيــــــوانُ !!
فهلكت أمم وضاعت حضارات لأفعال وأخطاء , وازدهرت أمم كذلك لأفعال أخرى .. ومن شدّة غباء البشر , يعيدون نفس الأخطاء الموصلة لنفس العواقب بالتأكيد :
إقرأوا التاريخ إذ فيه العبر **** ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخبر
هكذا علمني موقعي وعُمري , علمني أن الناس مابين طامع خاسر , وصابر ظافر .. فالصبر قرين للنجاح , وسبيل الفلاح , ومنهاج الوصول لما فيه الخير .. و الطمع يجري في عروق ابن آدم , ويشربه في مشربه ويأكله في مأكله بل ويلبسه كما يلبس الرجل الإزار .. فقد رأيت من موقعي وفي ما مضى من الليالي هاروت وماروت , وما حل بهما وما حل كذلك بمن أُورِثوا الأرض من بعدهم والتاريخ مدرسة كبيرة مفتوحة على الدوام , ولكن أين طلابها ؟! .
علمني موقعي وعمري أن الحياة لعبة طويلة قصيرة , يجول فيها الإنسان بين رغبات وواقع , وخيرٍ وشر .. وهي –لمن نظر لها نظرة شاملة علوية- مثل العلامة التجارية التي توضع على السلع "المخططة بالأبيض والأسود" .. فحياة الإنسان مثلها تماماً , بيضاء حينا وسوداء حيناً .. وهم يتقلبون بين هذه وتلك ثم يتوقف قلب الرجل منهم فتكون (العلامة التجارية) على لون واحد , "باابيض ويااسوِيد, رمادي مفيش " كما يقول الممثل الحمار عادل إمام ! .
علمني موقعي وعلمتني صروف الدهر أن الأمم كالمحرّكات الكبيرة , مكوّنة من مجموعة كبيرة من التروس, ملايين على وجه التحديد ؛ ويمثل هذه التروس أبناء الأمة , بعضها كبير مثمر , وبعضها ضعيف له تأثير سلبي على كافة المجموعة والتي يمثلها المحرك .. واتجاه المحرك في الحياة وطريق سيره دائماً تحدده وتختاره التروس وخاصة الرئيسة منها , ولقيام التروس بأدائها على أكمل وجه لزم استعمال الزيوت التي توضع في المحرك لتحميه من التآكل , متمثلة في الجوانب الروحية والأخلاقية أو اللامادية . المحرّكات تعطب .. إما لعدم وجود الزيت أصلاً , أو لردائة الزيت نفسه , وكل الزيوت لها عمر افتراضي سوى زيت التوحيد الذي ما إن يزيد إلا تزيد بركة المحرك ولا يجف منبعه ولا يتلف كما تلفت غيره من الزيوت .
علمني موقعي والدهر أن الخلاف يجري في دم بني آدم مع كريات الدم البيضاء والحمراء فيه, فكأنه عاش ليجادل , وخلق ليخاصم ويتحزب وينقد ويشتم .. منذ فجر التاريخ والناس هكذا يسيرون في طرق المخاصمة , ويكون في أحيان كثيرة لمجرد فرض أحد الطرفين على الآخر فكرته وإجباره عليها وكأنها الحق الذي لا يساوره باطل , وهذا بدوره أدى إلى تحزب الناس , عرقاً ولوناً وديناً وفكراً ومذهباً ,, بل حتى في أبسط الأمور وأحقرها .
فأصبح هذا سامي وذاك آري , وهذا عربي وذاك زنجي , وهذا شامي وذاك نجدي , وهذا سويدي وذاك كواري , وهذا من البطن الفلاني وذاك من غيره , وهذا ابن فلان وذاك ابن فلان .. وقِسا على ذلك "آلاف" الألقاب والتصنيفات القائمة على أساس مذهبي , حتى في أبسط الجماعات وأقلها عدداً وأقلها حكمة وعلماً .
في الحقيقة لا أعلم يا بنتيّ من أيهم أعجب , من ذاك الذي يحاول أن يجعل داخل الأحزاب أحزاباً أو من مَن يستجيب له ويدخل ما أنشأ في أجندته !! .. ثم أعجب من جديد , هل هم يعيشون ليختلفوا ؟ .
على صعيد آخر تعلمت أن الناس بين ساعٍ إلى الحق وزاعمٍ لنفسه الحق كل الحق , ودائما يكون الحق ناصراً للأول , ويكون الآخر ماسكاً بيده على فكره ويحاول أن لا يشغل عقله بمحاولة إعادة النظر في بعض أفكاره , وفي الغالب هذا الصنف يصل لطريق مسدود بجدار يسمى "الفراغ الفكري" .
تنهد ثم قال هامساً :
قامت تراودني هواجس كثيرة هذه الأيام , توبخني على ما أفنيت عمري فيه مع بنى آدم ؛ فما لي ومالهم , أولئك المتناقضين الطامعين المتحاربين . لا أعلم ما الجذّاب فيهم لكي أقتل وقت فراغي في هكذا علم , علمٌ لا يسعهم العمل به ولا فهم جوانبه المظلمة .. لماذا لم أتفكر فيما هو أهم منهم , أبنائي الكواكب وبناتي النجوم المنثورين كاللؤلؤ في كون الله الواسع ... حالي كحال مزارع قروي في آخر الدنيا تعلم كل علوم الفلك وهو لا يملك و لن يملك تلسكوباً ! .
أناخ بوجهه عن الأرض وأعطاها ظهره ليعلن للكون عزوفه عن هوايته السابقة , وبدء حياة جديدة بعيدة عن التفكر في هؤلاء النمل ؛ صرخ بأعلى صوته بين جنبات الكون الواسع : راحت الأيام , وحلّت أيامٌ أخرى , وهذه سنة الحياة التي لن أكون سوى عامل بها .. سلامٌ عليك عهود الصبا .
همس في أذن بنتيه فقال : ها قد مات يومي , وحان فجر يوم جديد للشمس , الشمس التي تفوقني حكمة وعلماً .. فهي كالسلطان القوي على بني آدم , تراهم ولا يرونها و يخشون رؤيتها ويخافون ما قد يحل بهم من أشعتها .. وأعترف بصدق القائل :
وما التأنيثُ لإسمِ الشمسِ عيبٌ **** وما التَذكيرُ فخرٌ للهلالِ
أمسك القمر ببنتيه وركض خلف الجبال خوفاً من الشمس , فإذا بها تخرج بكل كبريائها وزهوها , شمس الحياة ووقودها والجذوة الطاردة للعصور الجليدية ... خرجت وهي تردد : أليس الصبح بقريب ؟ أليس الصبح بقريب ؟! .
****
أسعد الله ليلكم ونهاركم أيها السادة ..
ثــريــول
.
[/quote]
وما التأنيث لاسم الشمسِ عيبٌ **** وما التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
****
الـشمس هناك عند أقـصى الأفُـق , حمـراء ذابلـة تودع الصحـراء القاحلـة لأجلٍ قريب , فالموعد الصبح , أليس الصبح بِقريب ؟ .
ناقـةٌ عُمانيـةٌ سـوداء رابضـةٌ فوق كثيبٍ رملي , بالقرب منها بدوي نزل منها ليتوضأ للصلاة .. أخرج القربـة وشرب منها قليلاً وتوضأ واتجه نحـو الغرب .
صلى وانتهى من صلاته وسبّح ودعا وحمد وشكر .. ثم ركب ناقته وسار متوكلاً على الله نحو مضارب جماعته .
اختفت الشمس وطل القمر , طل طلته البهية فأنار بعضاً من الظلام , وألهم شاعراً –هناك في حَلَب- مشاعراً تعينه في شعره فاسترسل شعراً كما يسترسل طالبٌ يقرأ كلمة طابور الصباح .. هذا البهاء القمري جعله معبوداً عند بعض قبائل اليمن قبل ميلاد عيسى عليه السلام , حين ينير لهم طرقات إبلهم أثناء سير قوافلهم مروراً بجبال تعز ووديانها .
كان حينها هلالٌ لم يكتمل عمره , ولم ينضج نور وجهه .. فأعان رغم ذلك راهباً بوذياً كبيراً في السن يخطو خطواته "البطيئة" على الدرج نحو معبده في إحدى جبال التبت أو ما يعرف عند سكانه بــ (سقف العالم) ... وفي نفس العالم , وبعد ساعات طوال , وبالتحديد في ولاية (تكساس) الأمريكية حالياً و(العالم الجديد) حينها , قام رجل من الهنود الحمر بإشعال نارٍ بعد جهد جهيد , فتجمع القوم حولها وقام أحدهم يشدو بالغناء على الرغم من بشاعة صوته .
بعد ذلك بساعات كذلك , في سيبيريا أو ما يعرف عند الروس بـ (ثلاجة العالم) , سياسي روسي معارض مرمي في كوخ صغير تحت الإقامة الجبرية , ينتفض من البرد كما ينتفض الممسوس من الجن ! , أمامه مجموعة أوراق يكتب فيها عن مذكرات حياته , حياته التي دمرها (قيصر موسكو) !.
بين الشمال والجنوب , والحر والبرد , والعز والذل , والمشاعر المتضادة .. وقف هذا الهلال من الأعلى يراقب كعادته منذ خُلِق , يتحسس الأفئدة ويداويها ويرى مالايراه بني البشر .. فقد أصبح حكيماً وخبيراً بنا بني البشر أكثر منا .
بعيداً كل البعد عن الحقائق وعلوم الفلك والفضاء , وبمنأى عن وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا " والدكتور "صالح العجيري" ... أكتب ما دار ساعتها بين القمر وبناته النجوم , حين حدثهم بما كان يكتنـزه في لبّه من حكمة بالغة ورأي سديد , هذا الرأي الذي طال صمته عنه ولم يقله فقامت عليه أطنان من بيوت العنكبوت , ولكن, قد حان وقت الحديث :
سكت القمر وهو ينظر بدون اهتمامٍ إلى الأرض , ثم تنهد ونادى بنتين من بناته الغير معدودات . فاقتربتا منه بكل حياء وقالوا : نعم أبتاه .
قال لهم القمر , وقد خط العمر على وجنتيه بل عليه وعلى ما فيه : خذاها مني يا حبيباتي , فوق كل ذي علمٍ عليم , وأنا هاهنا في أعلى السماء فوق كل هؤلاء , هؤلاء الذين قضيت أيامي أراقبهم وهم يراقبوني , ألاحظهم وهم كذلك يلاحظوني , لكن , رغم ذلك , هم يفنون وتطويهم صفحات من التراب , وينقضي عمرهم الافتراضي عند خط نهاية , أما أنا فهاهنا جالس مذ خلق الإنسان , وهذا إن دل فإنه يدل على علمي أنا بأهل الأرض أكثر من علمهم بي , بل حتى أكثر من علمهم بأنفسهم ! .
رحل ببصره نحو الأرض , هو وبنتيه .. فهبط البصر على هاتيك المشاهد التي نقلتها في الأعلى , فقال بنبرة ملؤها الحكمة والحنكة : أنا إذا ما الليل عسعس , والظلام لكل نورٍ طمس , سبحت فوق سماء المعسعسين والساهرين , فكنت نعم الصاحب ونعم الرفيق المسلي , اُخرج اليأس من قلب راعيٍ بنغالي , وأدخل الحس الجمالي على لوحة الموناليزا ؛ فكلهم يضعونني رمزاً للجمال وتاجاً له, ووجه الكمال والكمال لخالقي وخالقهم .. لكنهم جميعاً لم يروا ما ترونه الآن يابنتيّ .. لم يروني كدميم الوجه قبيح الشكل مخطط الخد عظيم الأنف , بل كنت عبلة عنتر وجولييت روميو .
بين روميو وعنتر وصراعهما الأبدي , وبين الحضارات واللغات , أطير محلقاً فوق كل هذه المجتمعات , فلا أملك وطناً بل الأوطان –كل الأوطان- تمتلكني , وتنتشي من بين ثنايا ضوئي المشاعر حين تجف تلك المشاعر من بطينيهم وأذينيهم بل وحتى من أدبياتهم وثقافتهم .
أنا مملكة القلوب , والجسر الواصل بين الشرق والغرب , وبين البطين المرء و أذينه , والحبل الرابط بين قلوب ذوي القلوب . وفي نفس الوقت , أنا مملكة العقل والمنطق .. فها أنا ذا هنا في ليلة جديدة سبقتها ليالي لا تُعد , بين نائحة وعروس ,, ومن عاشق إلى غارق في لجج الضيق انظر وأتفكر .. فما لي لا ازعم لنفسي العلم والمعرفة بهم , وبميولهم .. و.. غبائهم ! .
نعم غبائهم , غبائهم لأنهم لم يعتبروا التاريخ مدرسة , مدرسة كبيرة بها من المعلومات ما لايوجد في غيرها .. والحياة صفحات متشابهة تتجدد في كل زمان , والتاريخ اسطوانة تعاد كل فترة , وفيه قامت أخطاء وحصلت نجاحات ,, والغريب أن الغالب من الأفراد والأمم لا يلفتوا لهذا أو ذاك :
أيـــن الملوك ذوو التيجان من يمـنٍ **** وأيـــــن مــنهم أكالـيـلٌ وتيـــجـانُ ؟!
وأيـــــن ما شاده شــــدَّادُ فــــي إرمٍ **** وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ ؟!
وأين ما حـــازه قـارون من ذهــــب **** وأين عـــــادٌ وشـــــدادٌ وقحــــطانُ ؟!
أتــى علــى الــكل أمـرٌ لا مرد لـــــه **** حتــى قــضوا فكأن القـوم ما كانوا !!
وصـــار ما كان مـن مُلكٍ ومن مَلـِكٍ **** كما حكى عن خيال الطيفِ وسنانُ !!
دار الـــــزمـــان علــى دارا وقاتلــه **** وأمَّ كســــرى فمــــا آواه إيــــــوانُ !!
فهلكت أمم وضاعت حضارات لأفعال وأخطاء , وازدهرت أمم كذلك لأفعال أخرى .. ومن شدّة غباء البشر , يعيدون نفس الأخطاء الموصلة لنفس العواقب بالتأكيد :
إقرأوا التاريخ إذ فيه العبر **** ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخبر
هكذا علمني موقعي وعُمري , علمني أن الناس مابين طامع خاسر , وصابر ظافر .. فالصبر قرين للنجاح , وسبيل الفلاح , ومنهاج الوصول لما فيه الخير .. و الطمع يجري في عروق ابن آدم , ويشربه في مشربه ويأكله في مأكله بل ويلبسه كما يلبس الرجل الإزار .. فقد رأيت من موقعي وفي ما مضى من الليالي هاروت وماروت , وما حل بهما وما حل كذلك بمن أُورِثوا الأرض من بعدهم والتاريخ مدرسة كبيرة مفتوحة على الدوام , ولكن أين طلابها ؟! .
علمني موقعي وعمري أن الحياة لعبة طويلة قصيرة , يجول فيها الإنسان بين رغبات وواقع , وخيرٍ وشر .. وهي –لمن نظر لها نظرة شاملة علوية- مثل العلامة التجارية التي توضع على السلع "المخططة بالأبيض والأسود" .. فحياة الإنسان مثلها تماماً , بيضاء حينا وسوداء حيناً .. وهم يتقلبون بين هذه وتلك ثم يتوقف قلب الرجل منهم فتكون (العلامة التجارية) على لون واحد , "باابيض ويااسوِيد, رمادي مفيش " كما يقول الممثل الحمار عادل إمام ! .
علمني موقعي وعلمتني صروف الدهر أن الأمم كالمحرّكات الكبيرة , مكوّنة من مجموعة كبيرة من التروس, ملايين على وجه التحديد ؛ ويمثل هذه التروس أبناء الأمة , بعضها كبير مثمر , وبعضها ضعيف له تأثير سلبي على كافة المجموعة والتي يمثلها المحرك .. واتجاه المحرك في الحياة وطريق سيره دائماً تحدده وتختاره التروس وخاصة الرئيسة منها , ولقيام التروس بأدائها على أكمل وجه لزم استعمال الزيوت التي توضع في المحرك لتحميه من التآكل , متمثلة في الجوانب الروحية والأخلاقية أو اللامادية . المحرّكات تعطب .. إما لعدم وجود الزيت أصلاً , أو لردائة الزيت نفسه , وكل الزيوت لها عمر افتراضي سوى زيت التوحيد الذي ما إن يزيد إلا تزيد بركة المحرك ولا يجف منبعه ولا يتلف كما تلفت غيره من الزيوت .
علمني موقعي والدهر أن الخلاف يجري في دم بني آدم مع كريات الدم البيضاء والحمراء فيه, فكأنه عاش ليجادل , وخلق ليخاصم ويتحزب وينقد ويشتم .. منذ فجر التاريخ والناس هكذا يسيرون في طرق المخاصمة , ويكون في أحيان كثيرة لمجرد فرض أحد الطرفين على الآخر فكرته وإجباره عليها وكأنها الحق الذي لا يساوره باطل , وهذا بدوره أدى إلى تحزب الناس , عرقاً ولوناً وديناً وفكراً ومذهباً ,, بل حتى في أبسط الأمور وأحقرها .
فأصبح هذا سامي وذاك آري , وهذا عربي وذاك زنجي , وهذا شامي وذاك نجدي , وهذا سويدي وذاك كواري , وهذا من البطن الفلاني وذاك من غيره , وهذا ابن فلان وذاك ابن فلان .. وقِسا على ذلك "آلاف" الألقاب والتصنيفات القائمة على أساس مذهبي , حتى في أبسط الجماعات وأقلها عدداً وأقلها حكمة وعلماً .
في الحقيقة لا أعلم يا بنتيّ من أيهم أعجب , من ذاك الذي يحاول أن يجعل داخل الأحزاب أحزاباً أو من مَن يستجيب له ويدخل ما أنشأ في أجندته !! .. ثم أعجب من جديد , هل هم يعيشون ليختلفوا ؟ .
على صعيد آخر تعلمت أن الناس بين ساعٍ إلى الحق وزاعمٍ لنفسه الحق كل الحق , ودائما يكون الحق ناصراً للأول , ويكون الآخر ماسكاً بيده على فكره ويحاول أن لا يشغل عقله بمحاولة إعادة النظر في بعض أفكاره , وفي الغالب هذا الصنف يصل لطريق مسدود بجدار يسمى "الفراغ الفكري" .
تنهد ثم قال هامساً :
قامت تراودني هواجس كثيرة هذه الأيام , توبخني على ما أفنيت عمري فيه مع بنى آدم ؛ فما لي ومالهم , أولئك المتناقضين الطامعين المتحاربين . لا أعلم ما الجذّاب فيهم لكي أقتل وقت فراغي في هكذا علم , علمٌ لا يسعهم العمل به ولا فهم جوانبه المظلمة .. لماذا لم أتفكر فيما هو أهم منهم , أبنائي الكواكب وبناتي النجوم المنثورين كاللؤلؤ في كون الله الواسع ... حالي كحال مزارع قروي في آخر الدنيا تعلم كل علوم الفلك وهو لا يملك و لن يملك تلسكوباً ! .
أناخ بوجهه عن الأرض وأعطاها ظهره ليعلن للكون عزوفه عن هوايته السابقة , وبدء حياة جديدة بعيدة عن التفكر في هؤلاء النمل ؛ صرخ بأعلى صوته بين جنبات الكون الواسع : راحت الأيام , وحلّت أيامٌ أخرى , وهذه سنة الحياة التي لن أكون سوى عامل بها .. سلامٌ عليك عهود الصبا .
همس في أذن بنتيه فقال : ها قد مات يومي , وحان فجر يوم جديد للشمس , الشمس التي تفوقني حكمة وعلماً .. فهي كالسلطان القوي على بني آدم , تراهم ولا يرونها و يخشون رؤيتها ويخافون ما قد يحل بهم من أشعتها .. وأعترف بصدق القائل :
وما التأنيثُ لإسمِ الشمسِ عيبٌ **** وما التَذكيرُ فخرٌ للهلالِ
أمسك القمر ببنتيه وركض خلف الجبال خوفاً من الشمس , فإذا بها تخرج بكل كبريائها وزهوها , شمس الحياة ووقودها والجذوة الطاردة للعصور الجليدية ... خرجت وهي تردد : أليس الصبح بقريب ؟ أليس الصبح بقريب ؟! .
****
أسعد الله ليلكم ونهاركم أيها السادة ..
ثــريــول
.
[/quote]